فصل: القَوْل فِي معنى «إِذا» و «إِذْ» هما ظرفان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي معنى «مَتى» و «أَيْن» و «حَيْثُ»:

أما مَتى فَإِنَّهُ ظرف زمَان وَالسُّؤَال عَنهُ يُنبئ عَن الزَّمَان فَإِذا قلت: مَتى الْحَرْب: قَالَ مخاطبك: غَدا.
وَأما «أَيْن) فتنبئ عَن الْمَكَان وَهِي فِي عبارَة الْقَوْم ظرف مَكَان وجوابها يَقع بِهِ، فَإِذا قلت: أَيْن زيد؟ قَالَ مخاطبك: فِي الْمَسْجِد أَو الدَّار، كَذَلِك حَيْثُ ظرف مَكَان.

.القَوْل فِي معنى «إِذا» و «إِذْ» هما ظرفان:

فَإذْ لما مضى، وَإِذا لم يسْتَقْبل فَتَقول: قُمْت إِذْ قَامَ زيد. وأقوم إِذا قَامَ عَمْرو. فَهَذِهِ جمل فِي الْحُرُوف كَافِيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.القَوْل فِي أَنه هَل يجوز أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ؟:

اعْلَم، وفقك الله أَن الْأَسْمَاء والألفاظ منقسمة. فَمِنْهَا مَا وضع لإِفَادَة معنى وَاحِد وَلم يسْتَعْمل عرفا فِي غَيره فَلَا يُفِيد فِي الْإِطْلَاق إِلَّا مُقْتَضَاهُ وَمِنْهَا: مَا وضع فِي أصل اللُّغَة لمعنيين فَصَاعِدا.
ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم فَمِنْهُ مَا يُنبئ عَن أَشْيَاء متماثلة وَمِنْه مَا يُنبئ عَن معَان مُخْتَلفَة فَالَّذِي يُنبئ عَن أَشْيَاء متماثلة فَهُوَ نَحْو قَوْلك. السوَاد وَالْبَيَاض. فالسواد يُنبئ عَن آحَاد جنسه وَكَذَلِكَ كل مَا يضاهيه وَأما الَّذِي يُنبئ عَن معَان مُخْتَلفَة فنحو الْعين والقرن والبيضة والقرء، فَإِنَّهُ على الْأَصَح مُتَرَدّد بَين الطُّهْر وَالْحيض. وَمِمَّا يلْتَحق بِهَذَا الْقسم أَن اللَّفْظَة قد تُوضَع فِي أصل اللُّغَة لِمَعْنى وَاحِد ثمَّ تسْتَعْمل فِي غير ذَلِك تجوزا، وَذَلِكَ نَحْو اللَّمْس بِالْيَدِ وَغَيرهَا ثمَّ اسْتعْمل مجَازًا فِي الوطئ. وَكَذَلِكَ النِّكَاح حَقِيقَة الوطئ فِي أصل اللُّغَة ثمَّ غلب اسْتِعْمَاله فِي إِرَادَة العقد وَمن الْأَلْفَاظ المنقسمة بَين معَان قَوْلك أَي شَيْء يحسن زيد. يَنْقَسِم إِلَى الِاسْتِفْهَام وَإِلَى الازدراء بِمَا يُحسنهُ وَإِلَى التَّعْظِيم لما يُحسنهُ.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك كُله أَن كل لَفْظَة تنبئ عَن مَعْنيين فَإِن كَانَا متناقضين لَا يتَحَقَّق اجْتِمَاعهمَا فَلَا تجوز إرادتهما باللفظة الْوَاحِدَة وكل مَعْنيين غير متناقضين تنبئ اللَّفْظَة عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَتجوز إرادتهما باللفظة وَإِن أطلقت مرّة وَاحِدَة.
ثمَّ كَمَا يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظَة وَاحِدَة وضعت لَهما حَقِيقَة فَكَذَلِك يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظ هُوَ حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الثَّانِي وإيضاح ذَلِك بالأمثلة أَن قَول الْقَائِل «افْعَل»
. عِنْد منكري الصِّيغَة مُتَرَدّد بَين الْإِبَاحَة والإيجاب وَالنَّدْب والزجر وَغير ذَلِك. فَلَا تصح إِرَادَة هَذِه الْمعَانِي باللفظة الْوَاحِدَة لتناقضها وَالْعين لما ترددت بَين معَان مُخْتَلفَة لَا تتناقض فَتَصِح إرادتهما بِاللَّفْظِ مَعَ إيجازه وَأما تَمْثِيل حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَهُوَ مثل اللَّمْس يجوز حمله على مُجَرّد الْمَسِيس وعَلى الوطئ مَعًا.
وَفِي هَذَا الْقسم أصل تزل فِيهِ أفهام المستطرفين. وَنحن ننبهك عَلَيْهِ، وَهُوَ أَن مُطلق هَذَا اللَّفْظ لَو خطر لَهُ قصر اللَّفْظ على الْحَقِيقَة أَو قصر اللَّفْظ على الْمجَاز لم يتَصَوَّر الْجمع بَين الْمَعْنيين فَلَا يَتَقَرَّر اسْتِعْمَاله على حَقِيقَة مَعَ الْجمع بَينهمَا وَبَين وَجه التَّجَوُّز فَإِن الْحَقِيقَة تَقْتَضِي قصرهَا والتجوز يَقْتَضِي تعديتها عَن أصل وَضعهَا فَافْهَم ذَلِك.
وَاعْلَم أَن إِرَادَة الْجمع إِنَّمَا تصح مِمَّن لم يخْطر لَهُ التَّعَرُّض للْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَلَكِن يقْتَصر على إِرَادَة الْمَسِيس من غير تعرض لوجه الِاسْتِعْمَال حَقِيقَة وتجوزا. فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَذَاهِب المحققة وجماهير الْفُقَهَاء؟
وَزعم ابْن الجبائي من الْمُعْتَزلَة وشرذمة من أصحاب أبي حنيفَة أَنه لَا يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظَة وَاحِدَة تطلق مرّة وَاحِدَة، سَوَاء كَانَت حَقِيقَة فيهمَا أَو مجَازًا أَو حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَازًا فِي الثَّانِي.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك عَلَيْهِم أَن نقُول أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا يَسْتَحِيل من مُطلق اللَّفْظ الْمُشْتَرك إِرَادَة الْمَعْنيين مَعًا، وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يَسْتَحِيل مِنْهُ إرادتهما وَلَكِن لَا يفهم من مُطلق اللَّفْظ جمع الْمَعْنيين من غير قرينَة. فَإِن قُلْتُمْ يَسْتَحِيل إِرَادَة الْمَعْنيين جَمِيعًا فَهَذَا قرب مِنْكُم من جحد الضَّرُورَة والمعهود فِي الْمَعْقُول. فَإنَّا نعلم قطعا جَوَاز إِرَادَة الْمُخْتَلِفين غير المتناقضين مَعًا. وجاحد ذَلِك مفصح بالعناد. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن ذَلِك لَا يَسْتَحِيل وَلَكِن لَا يفهم من مُطلق اللَّفْظ فَهَذَا مَا نقُول بِهِ. فَإنَّا نقُول إِذا احْتمل إِرَادَة الْمَعْنيين وَاحْتمل تَخْصِيص اللَّفْظ بِأَحَدِهِمَا فَيتَوَقَّف فِي معنى اللَّفْظ على قرينَة تدل على الْجمع أَو التَّخْصِيص. وَكَيف لَا نقُول ذَلِك وَنحن على نصْرَة نفي صِيغَة الْعُمُوم.
فَإِن قيل: إِذا جوزتم إِرَادَة الْمَعْنيين أفتتعلق بهما إِرَادَة وَاحِدَة أم إرادتان؟ قُلْنَا: الْأَصَح عندنَا أَن الْإِرَادَة الْحَادِثَة لَا تتَعَلَّق إِلَّا بِمُرَاد وَاحِد فَلَا تتَحَقَّق إِرَادَة المرادين إِلَّا بإرادتين وَهَذَا لَو أطنبنا فِيهِ لتَعلق الْكَلَام بالديانات فِي حقائق صِفَات المتعلقات.

.القَوْل فِي بَيَان الطّرق إِلَى معرفَة مُرَاد الله تَعَالَى وَمُرَاد رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْخِطَابِ:

فَأَما خطاب الله عز وَجل فَاعْلَم أَنه يتَّصل بذوي الْأَلْبَاب على وَجْهَيْن من غير وَاسِطَة وَلَا تخَلّل مؤد وَرَسُول مبلغ. وَذَلِكَ تكليم الله عز وَجل من حمله وحيه من مَلَائكَته. وَهُوَ نَحْو تكليم الله مُوسَى وَنَبِينَا صلوَات الله عَلَيْهِمَا. فَإِن كَانَت المخاطبة على هَذَا الْوَجْه فَلَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا والإحاطة بعلمها إِلَّا الِاضْطِرَار. فَإِذا كلم الله عبدا من عباده يضطره إِلَى الْعلم بِأَن مخاطبه رب الْعَالمين ويبدع لَهُ الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن مَا سَمعه كَلَام الله تَعَالَى.
وَالدَّلِيل على تَحْقِيق مَا قُلْنَاهُ أَن كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُخَالف الْأَجْنَاس فَلَا يتبلغ بِمَعْرِِفَة ضروب الْكَلَام إِلَى معرفَة كَلَامه وَلَا يتَوَصَّل باللغات والمواضعات على الإطلاقات والعبارات إِلَى الْعلم بِكَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنَّهُ يُخَالف الْعبارَات، وَجُمْلَة ضروب الْكَلَام واللغات، وَلَا تدل على كَلَامه دلَالَة عقلية، نَحْو دلَالَة الْحُدُوث على الْمُحدث والاتقان على الْعلم والتخصيص على المريد فَلَا تبقي طَريقَة فِي مدرك الْعلم بِكَلَامِهِ سوى الِاضْطِرَار.
فَإِن قيل: فَلَو قرن خطابه مَعَ انْتِفَاء الوسائط بِالْآيَاتِ الظَّاهِرَة والمعجزات الباهرة أفتدل؟
قيل: مَا نرى أَنَّهَا تدل، فَإِنَّهُ لَا تعلق لمبدعات الرب تَعَالَى وصنائعه بِكَوْن المسموع كَلَامه. وَإِنَّمَا تدل المعجزات على صدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لاقتران التحدي مَعَ عجز الَّذين تعلق بهم التحدي عَن الْمُقَابلَة والمعارضة. فَلَو خضنا فِي وَجه دلَالَة المعجزة على الصدْق لخرج عَن الْمَقْصُود. وَهُوَ مِمَّا يتَعَلَّق بالديانات.
وَقد ذهب القلانسي وَعبد الله بن سعيد وَغَيرهمَا من سلفنا أَن نفس سَماع كَلَام الله تَعَالَى يعقب الْعلم بِهِ لَا محَالة.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا مِمَّا لَا أرتضيه وأجوز سَماع كَلَام الله تَعَالَى مَعَ الذهول عَن كَونه كلَاما لله تَعَالَى، فَلَا طَرِيق مَعَ تَقْدِير انْتِفَاء الوسائط يُوصل إِلَى الْعلم إِلَّا الِاضْطِرَار، فَلَو خَاطب الرب تَعَالَى عَبده من غير توَسط مبلغ وَرَسُول.
فَأَما الْوَجْه الثَّانِي من الْخطاب فَهُوَ الَّذِي يتَّصل بالمخاطبين من جِهَة الرُّسُل المبلغين، فَمَا هَذَا سَبيله تترتب مَعْرفَته على الْعلم بِصدق الْمُرْسل أَولا وَوُجُوب عصمته عَن الْخلف فِي التَّبْلِيغ. وَإِنَّمَا يتَبَيَّن ذَلِك بالمعجزات فَإِذا استيقن الْمُكَلف صدق الْمبلغ فِيمَا بلغه.
ثمَّ صِيغ الْكَلَام تَنْقَسِم إِلَى نُصُوص ومحتملات.
فَأَما النُّصُوص على مَذْهَبنَا لم يُتَابع عَلَيْهِ... فتستقل بأنفسها فِي إثارة الْمعَانِي... أَمر لذاته... فِي دَرك المُرَاد مِنْهَا حَتَّى تقترن بهَا قرينَة من حَال أَو مقَال تَقْتَضِي تَحْقِيق المُرَاد بهَا، على مَا ستأتيك الْقَرَائِن ومنازلها فِي أَبْوَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص وأبواب الْأَوَامِر والنواهي. فَهَذَا وَجه انقسام معرفَة خطاب الله تَعَالَى.
فَأَما معرفَة خطاب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فينقسم أَيْضا إِلَى شفَاه ووجاه وَإِلَى مَا يبلغ عَنهُ.
فَأَما مَا خَاطب بِهِ من عاصره وجاها فَمِنْهُ مَا كَانَ نصا علم المخاطبون مَعْنَاهُ وفحواه قطعا. وَمِنْهَا مَا كَانَ مُحْتملا فِي نَفسه، ووضح لديهم مَعْنَاهُ بقرائن الْحَال. وَمِنْه مَا بَقِي على الِاحْتِمَال وَلم يتَّفق فِيهِ استفصال وَهَذَا الْقَبِيل يتَعَلَّق بالوعد والوعيد وأنباء الْآخِرَة، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ ينْطق بِمَا يُنبئ عَن الشَّرْع إِلَّا ويوضحه على مَا نقرر التَّحْقِيق فِي ذَلِك فِي أَبْوَاب الْبَيَان إِن شَاءَ الله عز وَجل.
وَأما مَا يبلغ عَنهُ فينقسم إِلَى تَوَاتر وآحاد واستفاضة.
ثمَّ يَنْقَسِم الْمَنْقُول إِلَى نَص ومحتمل فَهَذَا وَجه الْإِيمَاء إِلَى جمل مدارك خطاب الله وَرَسُوله وتفصيلها يَأْتِي فِي مُعظم أَبْوَاب الْكتاب.

.باب الْكَلَام فِي الْأَوَامِر:

.القَوْل فِي الْأَمر وَحَقِيقَته:

اعْلَم، وفقك الله أَنا نحتاج إِلَى تَقْدِيم أصل قبل الْخَوْض فِي تَحْرِير عبارَة عَن حَقِيقَة الْأَمر. فَاعْلَم أَن الْكَلَام على أصُول الْمُحَقِّقين معنى فِي النَّفس وَهُوَ مَا تدل الْعبارَات عَلَيْهِ. وَلَا تسمى الْعبارَات كلَاما إِلَّا تجوزا وتوسعا فالعبارة إِذا دلَالَة على الْكَلَام، وَلَيْسَت بِعَين الْكَلَام وَهِي نازلة منزلَة الرموز والإشارات المعقبة أفهام المخاطبين وَكَذَلِكَ طرق المكاتبات وَغَيرهَا من ضروب الأمارات المنصوبة لإفهام الْكَلَام الْقَائِم بِالنَّفسِ. وَإِنَّمَا يستقصي ذَلِك فِي أصُول الديانَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِذا أحطت علما بِهِ فَاعْلَم أَن الْأَمر من أَقسَام الْكَلَام. وَهُوَ معنى قَائِم بِنَفس الْآمِر غيرالعبارة. فَإِذا أطلق الْأَمر فِي أبوابه فَاعْلَم أننا نعني بِهِ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ دون الْأَصْوَات وضروب الْعبارَات.
فَإِن قيل: فَمَا حَقِيقَة الْأَمر إِذا؟
قيل: هُوَ القَوْل المتضمن اقْتِضَاء الطَّاعَة من الْمَأْمُور لفعل الْمَأْمُور بِهِ فيندرج تَحت ذَلِك الْإِيجَاب والإلزام وَالْمَنْدُوب والاستحباب. وَيخرج فِيهِ مَا سواهُ وعداه كالإباحة وَالتَّحْرِيم. وَمَا ضاهاهما من أَقسَام الْأَحْكَام المتلقاة من مجاري الْكَلَام.
فَإِن قيل: ظَاهر مَا أطلقتموه يَقْتَضِي تَسْمِيَة النّدب أمرا.
قُلْنَا: هَذَا مَا نقُوله وسنوضحه فِي بَابه إِن شَاءَ الله عز وَجل.
وَقد خرج عَن قَضِيَّة الْحَد المسألة والاستدعاء وَذَلِكَ نَحْو... ابتهاله إِلَى ربه فِي دُعَائِهِ. وَقَوله ارْحَمْنِي واغفر لي فَإِن هَذَا وَأَمْثَاله لَيْسَ بِأَمْر، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال وَطلب .
وعرفه بعض أَئِمَّتنَا بالتحرز من ذَلِك، فَقَالَ هُوَ القَوْل الْمُقْتَضى للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على غير وَجه الْمَسْأَلَة وَهُوَ يَنُوب مناب مَا قدمْنَاهُ، مَعَ أَنه أَسد وأوضح، وسندل على كَون النّدب أمرا إِن شَاءَ الله عز وَجل.
وَخرج مِمَّا قدمْنَاهُ أَن الْأَمر إِذا أطلقناه لم نرد بِهِ الصِّيَغ والعبارات. وَإِنَّمَا أردنَا الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ ثمَّ ذكرنَا أَنه يتَرَدَّد أَيْضا بَين الْإِيجَاب وَالنَّدْب.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي قَول الْقَائِل افْعَل، وعنى السَّائِل بذلك الْعبارَة.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَوْمَأت إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ نفس الْأَمر وَلَيْسَ عين الْكَلَام وَإِنَّمَا هُوَ من قبيل الدلالات على الْكَلَام كالإشارة والرموز وَالْكِنَايَة وَنَحْوهَا من الدلالات.
فَإِن قيل: فعلى مَا يدل قَول الْقَائِل: افْعَل؟
قُلْنَا: هَذِه عبارَة مترددة بَين الدّلَالَة على الْإِلْزَام وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والتهديد وَغَيرهَا من المصارف الَّتِي سنذكرها. فَالْأَمْر الْحَقِيقِيّ إِذا مُتَرَدّد بَين النّدب والإيجاب. وَهَذِه الْعبارَة الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِل تترد فِي كَونهَا دلَالَة بَين المصارف الَّتِي أومأنا إِلَيْهَا.
فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْأَمر فَلم كَانَ الْأَمر أمرا؟
قُلْنَا: كَون الْأَمر أمرا وصف يرجع إِلَى ذَاته. وَهُوَ مَا لَا يُعلل بعلة. وَلَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ مُعَلّق تَخْصِيص وَإِرَادَة. فَإِذا قيل لَك: لماذا كَانَ الْأَمر أمرا؟ فجوابك السديد أَن تَقول: إِنَّمَا كَانَ الْأَمر أمرا لنَفسِهِ وَتَحْقِيق قَول الْقَائِل ثَبت الحكم لنَفس الشَّيْء يرجع إِلَى أَنه ثَبت لَا لعِلَّة، وَلَا تَظنن أَنا نعني بِإِضَافَة الْوَصْف إِلَى النَّفس تَعْلِيله بِهِ. وَالْأَحْكَام منقسمة. فَمِنْهَا: مَا يُعلل. وَمِنْهَا: مَا يَسْتَحِيل تَعْلِيله. وأوصاف الْأَجْنَاس مِمَّا يَسْتَحِيل تعليلها. وَكَون الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ أمرا وصف جنسه وَنَفسه، وَهُوَ نَحْو كَون الْعلم علما، وَالْقُدْرَة قدرَة.
فَإِذا قيل: لم كَانَ الْعلم علما؟ كَانَ المرتضى فِي جوابك أَن تَقول للسَّائِل إِن رمت بِمَا قلت طلب تَعْلِيل، فالمسؤول عَنهُ مِمَّا لَا يُعلل. وَوجه إيجاز الْجَواب أَن الْعلم علم لنَفسِهِ، ثمَّ يعود الْكَلَام عِنْد الْإِيضَاح إِلَى أَنه علم لَا لعِلَّة.
وَأما الْمُعْتَزلَة فقد أطبقوا على أَن أَقسَام الْكَلَام رَاجِعَة إِلَى الْعبارَات وأنكروا مَا عَداهَا من كَلَام النَّفس الَّذِي نثبته. وصرفوا الْأَمر إِلَى الْعبارَة نَفسهَا ثمَّ الْأَكْثَرُونَ صَارُوا إِلَى أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَيْسَ بِأَمْر لنَفسِهِ وجنسه فَإِنَّهُ قد يُوجد والمقصد مِنْهُ الْوَعيد والتهديد. وَقد يبدر جنسه من الهاذي فَلَا يُسمى أمرا مَعَ صُدُور اللَّفْظ مِنْهُ.
قَالُوا: فَإِنَّمَا يصير أمرا بِثَلَاث إرادات، إِحْدَاهَا: تتَعَلَّق بحدوث هَذِه اللفظية. وَالْأُخْرَى: تتَعَلَّق بِكَوْنِهَا أمرا. وَالثَّالِثَة: تتَعَلَّق بالمأمور بِهِ، إِذْ الْأَمر لَا يتَحَقَّق عِنْد الْقَوْم إِلَّا مَعَ كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر.
وأبدع الكعبي مِنْهُم مذهبا لم يُتَابع عَلَيْهِ.. فَقَالَ قَول الْقَائِل افْعَل أَمر لنَفسِهِ وجنسه، وَيكون أمرا لذاته. فَإِذا قيل لَهُ: فقد ترد هَذِه الْعبارَة بِعَينهَا وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة. فَقَالَ مرتكبا: الْإِبَاحَة أَمر والمباح مَأْمُور بِهِ وسنوضح وَجه الرَّد عَلَيْهِم فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله عز وَجل.
فَقيل لَهُ: فقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التهديد نَحْو قَوْله عز اسْمه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم}.
فَقَالَ: إِذا ورد لاقْتِضَاء هَذَا المُرَاد فَهُوَ فِي جنسه مُخَالف للَّذي يَقْتَضِيهِ الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة. وَهَذَا الَّذِي ذكره قَول بَين فِي جحد الضروريات فَإنَّا نعلم أَن هَذِه الْأَصْوَات مجانسة للَّتِي ترد مورد الْأَمر، والصائر إِلَى أَنَّهَا تخالفها فِي الْجِنْس منتسب إِلَى الْمصير إِلَى اخْتِلَاف المتجانسات المتماثلات.
وَقد زعم كثير من الْفُقَهَاء الَّذين لم يحظوا بِحَقِيقَة الْأُصُول أَن الْأَمر يرجع إِلَى هَذِه الْأَصْوَات المتقطعة والحروف المنتظمة.
ثمَّ زَعَمُوا أَن قَول افْعَل يكون أمرا إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن الصارفة لَهُ عَن اقْتِضَاء الْوُجُوب فَإِذا سئلوا وَقيل لَهُم لم كَانَ الْأَمر أمرا؟
قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ أمرا بصيغته وتجرده عَن الْقَرَائِن.
وَالدَّلِيل على تَحْقِيق الرَّد على هَؤُلَاءِ أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا: إِن الصِّيغَة الَّتِي ذكرتموها أَمر لنَفسهَا، أَو تَقولُوا: إِنَّمَا تصير أمرا لتجردها عَن الْقَرَائِن أَو تَقولُوا تصير أمرا لنَفسهَا ولتجردها عَن الْقَرَائِن.
وَالْأولَى لَك بعد مَا قدمت هَذِه الْأَقْسَام أَن تعقبه بتقسيم يجمع الْمَقَاصِد. فَتَقول هَذَا الْوَصْف الَّذِي ثبتموه لهَذِهِ الصِّيغَة فَلَا يَخْلُو من أحد أَمريْن أما أَن يرجع إِلَيْهَا رُجُوع الْأَوْصَاف إِلَى الذوات والأجناس حَقِيقَة.
وَأما أَن تزعموا أَنه ينْصَرف إِلَيْهَا تواضعا وَاصْطِلَاحا، فَإِن زعمتم أَن الْوَصْف الَّذِي فِيهِ الْكَلَام يثبت بِهَذِهِ الصِّيغَة من غير تواضع واصطلاح فيلزمكم عَلَيْهِ مَا لَا قبل لكم بِهِ، مِنْهَا: أَن هَذِه اللَّفْظَة تبدر من النَّائِم والمغشى عَلَيْهِ وَلَا تسمى أمرا فَلَو كَانَت أمرا لنَفسهَا وجنسها وَجب تَحْقِيق هَذَا الْوَصْف كلما تحقق نَفسه اللَّفْظ.
فَإِن قيل: إِنَّمَا اتصفت هَذِه الصِّيغَة بِكَوْنِهَا أمرا عِنْد تجردها عَن الْقَرَائِن، وَمن الْقَرَائِن الَّتِي يشْتَرط تجرد الصِّيغَة عَنْهَا الْمعَانِي المضادة لكَمَال الْعقل.
قيل: فَمَا قدمْنَاهُ من التَّقْسِيم فِي صدر الْكتاب يعود. فإننا نقُول: إِن كَانَت الصِّيغَة أمرا لنَفسهَا لزمكم مَا ألزمناكم. وَإِن كَانَ كَونهَا أمرا مُعَللا بِانْتِفَاء الْقَرَائِن كَانَ ذَلِك مستحيلا فَإِن الانتفاء لَا يَقْتَضِي تثبيت وصف وَإِنَّمَا الْمُقْتَضى للْأَحْكَام ثُبُوت الْعِلَل والذوات. فَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الْمُقْتَضى لهَذَا الْوَصْف نفس الصِّيغَة مَعَ انْتِفَاء الْقَرَائِن كَانَ ذَلِك مستحيلا أَيْضا. فَإِن الانتفاء إنباء عَن عدم، ويستحيل تَأْثِير الْعَدَم والانتفاء فِي إِيجَاب الْأَحْكَام لَا على سَبِيل الِاسْتِقْلَال وَلَا على سَبِيل الانضمام إِلَى غَيره، فَإِن مَا لَا يكون كَيفَ يتَصَرَّف بالتأثير اسْتِقْلَالا أَو انضماما. ولعلنا نوضح القَوْل فِي ذَلِك فِي بَاب الْعِلَل عَن قَضِيَّة الْمَعْقُول لَهُم الْقَرَائِن الَّتِي شرطتم تجرد الصِّيغَة اللفظية عَنْهَا:
هِيَ الْقَرَائِن الدَّالَّة على خلاف الْإِلْزَام والإيجاب نَحْو مَا يدل على الْإِبَاحَة وَالنَّدْب أَو اقْتِضَاء التهديد. وَقد تحقق انْتِفَاء هَذِه الْقَرَائِن فِي حق الهاذي. فَهَذَا لَو زَعَمُوا أَن هَذِه الصِّيغَة تكون أمرا لَا على جِهَة التَّوَاضُع والاصطلاح.
فَإِن قَالُوا: إِنَّهَا أَمر تواضعا وَلَيْسَ ينْصَرف وصفهَا بِكَوْنِهَا أمرا إِلَى نَفسهَا وجنسها. وَلَكِن اصْطلحَ أَرْبَاب اللُّغَات على تثبيت هَذَا الْوَصْف لَهَا عِنْد تعريها عَن الْمَوَانِع والدوافع. وَجُمْلَة الْقَرَائِن المنافية لاقْتِضَاء الْإِلْزَام وَهَذَا مَا يعول عَلَيْهِ من ينتمي إِلَى التَّحْقِيق من هَذِه الفئة.
فَنَقُول: إِذا زعمتم أَن أهل اللُّغَة اصْطَلحُوا على تَسْمِيَة هَذِه الصِّيغَة أمرا وإلزاما وإيجابا عِنْد فقد قَرَائِن الْإِبَاحَة وَالنَّدْب والوعيد فَبِمَ تنكرون على من يعكس عَلَيْكُم دعواكم. وَيَقُول لَا بل وضعوها للاذن وَالْإِطْلَاق وَالْإِبَاحَة عِنْد تجردها عَن قَرَائِن الْإِلْزَام وَالنَّدْب والوعيد. فتتقابل الدعوتان وتتساقطان على مَا سنوضحه فِي بَاب الْوَقْف إِن شَاءَ الله عز وَجل.
ثمَّ يَتَّضِح ذَلِك بِمَا عَلَيْهِ الْمعول فِي إِثْبَات اللُّغَات ونفيها فَنَقُول: معاشر الْمُخَالفين! إِلَى مَا تسندون علمكُم بِمَا ادعيتموه فَإِن أسندتموه إِلَى اضطرار انتسبتم إِلَى التَّصْرِيح بالعناد. وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن تقابلوا دعواكم فِي ضد مقصودها فتتقابل دعوتا الِاضْطِرَار وتتساقطان. وَإِن أَنْتُم أسندتم علمكُم إِلَى دلَالَة عقلية فقد أخطاتم مقصدكم، فَإِن الْعُقُول لَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى مجاري اللُّغَات، وَتَخْصِيص الْأَسَامِي بالمسميات. وَإِن أَنْتُم أسندتم علمكُم إِلَى سَماع وَهُوَ مَا يتلَقَّى مِنْهُ اللُّغَات فَلَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا: أَن أَرْبَاب اللُّغَات نقلوا مَا ذكرتموه نقل تَوَاتر وإطباق، أَو تزعموا أَنه نقل آحَاد، فَإِن ادعيتم نقلا عَن سَبِيل الِاتِّفَاق والإطباق أحلتم بِمَا قُلْتُمْ وانتسبتم إِلَى مُجَرّد الدَّعْوَى. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الواقفين والحاملين الْأَمر على النّدب والحاملين على الْإِبَاحَة لَو جمعت فرقهم لأربوا فِي أعدادهم على الْقَائِلين بِالْوُجُوب فَمَا لهَذَا النَّقْل المطبق عَلَيْهِ اخْتصَّ بكم وَذهل عَنهُ مخالفكم، فَلَا يستتب نقل مَا ادعوهُ عَن اللُّغَة. وَإِن هم زَعَمُوا أَن ذَلِك نقل آحَاد فَالْكَلَام عَلَيْهِم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن نقُول لم يَصح أَيْضا عندنَا على سَبِيل الْآحَاد عَن أحد مِمَّن يوثق بِهِ من أَئِمَّة اللُّغَات أَن الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا تنازعنا عِنْد تجردها عَن الْقَرَائِن تَقْتَضِي الْإِيجَاب، فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤثر عَن أحد من أَرْبَاب اللُّغَات. وَلم يسطر ذَلِك مَعَ إِرَادَته مصنفاتهم. فقد بَطل مَا ادعوهُ على سَبِيل النَّقْل إِجْمَاعًا وآحادا على أَنا نقُول: اللُّغَات لَا تثبت آحادا وَقد أومأنا إِلَى ذَلِك فِي بَاب مَأْخَذ اللُّغَات.

.فصل: في حَقِيقَة النَّهْي:

فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْأَمر فَمَا حَقِيقَة النَّهْي.
قيل: مَا قدمْنَاهُ فِي حَقِيقَة الْأَمر يرشد إِلَى حَقِيقَة النَّهْي فحقيقته القَوْل الْمُقْتَضى طَاعَة المنهى بترك الْفِعْل المنهى عَنهُ.
فَيدْخل تَحت النَّهْي التَّنْزِيه وَالتَّحْرِيم كَمَا دخل تَحت الْأَمر الِاسْتِحْبَاب والإيجاب.

.القَوْل فِي الْفرق بَين الْإِبَاحَة وَالْأَمر:

اعْلَم أَن الْإِبَاحَة هِيَ الْإِذْن المتضمن تَخْيِير الْمُخَاطب بَين فعل الشَّيْء وَتَركه الْجَارِي مجْرَاه فِي الْإِبَاحَة من غير تَخْصِيص ذمّ وَلَا مدح بِأَحَدِهِمَا وَأما الْأَمر فقد سبق تَحْقِيقه وَإِذا جمعت بَين الحقيقتين تميزتا وامتاز أحد الْبَابَيْنِ عَن الآخر.
وَذهب الكعبي وشيعته إِلَى أَن الْمُبَاح مَأْمُور بِهِ وَأَن الْأَمر بِهِ دون رُتْبَة الْإِيجَاب وَالنَّدْب. وَالْأَمر على سَبِيل النّدب دون الْأَمر على سَبِيل الْإِيجَاب.
ثمَّ اعْلَم أَنه وإِن أطلق اسْم الْأَمر على الْإِبَاحَة وَاسم الْمَأْمُور بِهِ على الْمُبَاح فَلَا يُسمى الْمُبَاح وَاجِبا وَلَا الْإِبَاحَة إِيجَابا.
فَأول مَا نفاتحه أَن نقُول الْأَمر عندنَا هُوَ اقْتِضَاء الطَّاعَة، وَالْإِبَاحَة هِيَ الْإِذْن على النَّعْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْبَاب. فَأَنت أَيهَا الكعبي هَل تدرج الْإِبَاحَة فِي حَقِيقَة الْأَمر حَتَّى تزْعم أَنَّهَا اقْتِضَاء للطاعة أَو لَا تَقول ذَلِك. فَإِن أَنْت زعمت أَنَّهَا اقْتِضَاء الْفِعْل على سَبِيل الطَّاعَة فقد راغمت الْحَقَائِق، فَإنَّا نعلم بديهة وقطعا أَن تَخْيِير الْمُخَاطب بَين الشَّيْء وَتَركه المتساويين فِي جملَة أَحْكَام التَّكْلِيف لَا يتَضَمَّن اقْتِضَاء طَاعَة بل هُوَ تَخْيِير وَلَيْسَ باقتضاء وَدُعَاء إِلَى فعل، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا لَا محيص عَنهُ. وَهُوَ أَن نقُول إِن اقْتَضَت الْإِبَاحَة اقْتِضَاء وَدُعَاء فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تَقْتَضِي دُعَاء إِلَى الْفِعْل وَتَركه جَمِيعًا. وَذَلِكَ متضاد يَسْتَحِيل الدُّعَاء إِلَيْهِ.
وَأما أَن تَتَضَمَّن اقْتِضَاء أَحدهمَا وَذَلِكَ محَال، فَإِنَّهُ لَا يعين وَاحِد مِنْهُمَا فِي حكم الِاقْتِضَاء إِلَّا ويسوغ قلب الدَّعْوَى فِي الثَّانِي. وَإِن قَالَ الْخصم: هُوَ اقْتِضَاء لأَحَدهمَا لَا بِعَيْنِه كَانَ محالا. وَذَلِكَ أَن الْإِبَاحَة تَقْتَضِي تَفْوِيض الْأَمر إِلَى مشْيَة من أُبِيح لَهُ وَلَيْسَ فِيهَا دعاؤه إِلَى مَا فوض إِلَى خيرته لَا على سَبِيل الْإِجْمَال وَلَا على سَبِيل التَّعْيِين. وَمن أنصف علم أَن قَول الْقَائِل: أَدْعُوك إِلَى أحد الْفِعْلَيْنِ، فَهَذَا القَوْل مُخَالف لقَوْل الْقَائِل: أبحث لَك الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وجاحد ذَلِك ينْسب إِلَى العناد وَالْخُرُوج.
فَإِن قَالَ الكعبي: ترك الْمَحْظُور مَأْمُور بِهِ وفَاقا وَمَا من مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ترك لمحظور فَلَزِمَ من ذَلِك كَونه مَأْمُورا بِهِ.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل. فَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن نقُول: قد وافقتمونا على أَن الْمُبَاح لَا يُوصف بِالْوُجُوب وزعمتم أَنه فِي كَونه مَأْمُورا بِهِ ينحط عَن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فضلا عَن الْوَاجِب. فَإِذا تمهد ذَلِك من أصلكم قُلْنَا: فَترك الْمَحْظُور وَاجِب كَمَا أَنه مَأْمُور بِهِ فَهَلا زعمتم أَن الْمُبَاح وَاجِب من حَيْثُ أَنه ترك للمحظور وَترك الْمَحْظُور وَاجِب وفَاقا، فقد انعكس عَلَيْكُم فِي الْوُجُوب مَا ألزمتمونا فِي كَون الْمُبَاح مَأْمُورا بِهِ. وسنوضح القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي ذَلِك بعد مَا كَفَيْنَاك مُؤنَة الْخصم فِي الْبَاب المنطوي على إِيجَاب شَيْء من جملَة أَشْيَاء لَا بِعَيْنِه.

.فصل:

فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ فِي تَحْقِيق الْإِبَاحَة أَنَّهَا الْإِذْن فِي الْفِعْل وَتَركه الْجَارِي مجْرَاه فَمَا الْمَعْنى بقولكم الْجَارِي مجْرَاه؟
قُلْنَا: مقصدنا من ذَلِك التَّحَرُّز من أصل وَهُوَ أَن من الْمَحْظُور مَا هُوَ ترك للمباح ومضاد لَهُ. فَلَو أطلقنا التّرْك لم نَأْمَن اللّبْس فِي الْكَلَام فخصصنا القَوْل فِي التّرْك باقتضاء الْإِبَاحَة لدفع اللّبْس.
فَإِن قيل: أفتزعمون أَن الْمُبَاح دَاخل تَحت التَّكْلِيف.
قُلْنَا: إِن عنيتم بذلك أَن على الْمُكَلف فِي الْمُبَاح شَيْئا فَلَا. وَإِن عنيتم بذلك وُرُود السّمع بِالْإِذْنِ فَهُوَ مِمَّا نقُول بِهِ. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الْإِبَاحَة لَا تدخل فِي إِلْزَام وَندب وَتَحْرِيم، وَلَا يتَعَلَّق بهَا من العواقب المرقوبة فِي الشَّرْع شَيْء من وعد ووعيد وذم وثناء وثواب وعقاب، وَإِنَّمَا الْإِبَاحَة مُجَرّد إِذن وَإِطْلَاق وإنباء عَن رفع حرج. وَمن أحَاط علما بحقيقتها على هَذَا الْوَجْه هان عَلَيْهِ مدرك السُّؤَال.
فَإِن قيل: أفتقولون إِن الْمُبَاح من الْأفعال حسن أَو قَبِيح؟
قُلْنَا: لَا نصفه بِوَاحِد من الوصفين فَإنَّا ذكرنَا فِي حد الْحسن أَنه الْفِعْل الَّذِي ورد الشَّرْع باقتضاء الثَّنَاء على فَاعله والقبيح على الضِّدّ من ذَلِك. والمباح خَارج عَن النعتين والوصفين جَمِيعًا.